الأدب العراقي «المنفي» يحط رحاله في السعودية

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
23/02/2009 06:00 AM
GMT



لم يكن للأيام الثقافية العراقية التي أقيمت في السعودية أخيراً، وشارك في إحياء أعمالها أدباء ومثقفون جاءوا من داخل العراق، أن تمر من دون أن تثير الكثير من الأسئلة، وتنكأ الجراح العراقية. إذ مثلت مناسبة للحديث عن أوضاع المثقف العراقي تحت الاحتلال الأميركي، وفرصة لإعادة طرح أسئلة الأدب العراقي في الداخل، والعزلة التي استمرت عقوداً في ظل النظام السابق. وكان من الطبيعي أن يتطرق النقاش، الذي جرى على هامش الأيام، وإن بكثير من الأسف والأسى معاً، إلى الأدب الذي أنجزه عراقيون في المنفى، ومدى أصالة ما قدموه، وهل كان المعبر الحقيقي عن الأزمنة الصعبة، مثلما يحلو لبعض هؤلاء أن يرددوا عن كتاباتهم، أم مجرد ادعاءات؟
أحيا المثقفون، على مدى خمسة أيام، مناسبات ثقافية وأدبية وموسيقية في مدينتي الرياض وجدة، وتناولوا خلالها التحديات الراهنة والصعوبات التي تواجههم. وأظهروا شغفاً في التواصل مع الآخر العربي. وأبدوا استعداداً لتخطي المواقف وتجاوز الاختلافات بأنواعها، التي رسختها السياسة في عهود مضت، مؤكدين أن المثقف العراقي ما زال موجوداً، ولديه الكثير ليقدمه.
وأشاد الوفد، الذي ضم شعراء وقصاصين ونقاداً وفنانين تشكيليين وموسيقيين وأكاديميين، بالتنوع الثقافي في السعودية، وبالأندية الأدبية فيها وما تنظمه من أعمال متنوعة، وما تصدره من مطبوعات مختلفة، مشيرين إلى متابعاتهم، من بعد وما أمكن، لما يمور به المشهد الأدبي السعودي من تحولات، خصوصاً على صعيد الرواية والنقد.
وبدا المثقفون العراقيون راغبين بشدة في الحديث عن معاناتهم، والتطرق إلى الأجواء التي يتخلق فيها نصهم الإبداعي، وفي الإفصاح عن الجهود الشاقة، معنوياً ونفسياً، التي تبذل من أجل التعبير عن ذواتهم عبر نص متنوع ومتفرد جمالياً، على رغم الشروط الصعبة والظروف المأسوية التي يعيشون في أتونها.
حقل ألغام
يشبه الروائي والقاص العراقي لؤي حمزة عباس الكتابة الإبداعية في العراق، بالسير في حقل من الألغام إذ يصعب على الكاتب أن يحدد نتائج خطوته القادمة. ويقول إن ثمة ثمناً صعباً على الكاتب أن يدفعه جراء خروجه عن محددات كتابة السلطة وشروطها، «في الحرب عليك أن تكتب عن الفرح والانتصار، في الحصار عليك أن تكتب عن البطولة والمواجهة، في سنوات الفوضى عليك أن تكتب عن الوطن الجديد، وطن الديموقراطية والتسامح حتى وأنت تتضور جوعاً، حتى وأنت تتخبط في أنهار الدم والرماد، من الواجب أن تكتب عن الوطن حيث تبدو الوطنية معنى ملتبساً بالنسبة إلى شخص منتهك».
في مثل هذا المناخ الشائك والإشكالي، المحفوف بالنفي والتصفية الجسدية، ولدت كتابات صاحب رواية «الفريسة» و«ملاعبة الخيول» (قصص)، وتبلورت ملامح جيل الثمانينات الذي ينتمي إليه: «الجيل الذي لبس المأساة كما يلبس قميصاً ضيقاً، وقد وجد في قصيدة النثر مركبه السهل إلى الضفة الثانية، وظلت القصة تعاني ألم الكتابة وقسوة المواجهة جراء طبيعتها الكنائية».
عانت الكتابة العراقية مواجهات صعبة، وفي كل مرة تدخل ما يصفه القاص الكبير محمد خضير بـ«الحفلة التنكرية» كما ينقل لؤي عباس «لذلك اقترحت الكتابة القصصية تنوعات كتابية جديدة مثل المظهر الأسطوري الذي ساد منذ أواسط الثمانينات، إذ أنتج الكتاب أقنعة مختلفة لمواجهة الواقع والنزول إلى مياهه العميقة، الذهاب إلى آشور وسومر وأكد، للمثول في قلب الراهن وتأمل تفصيلاته العسيرة».
لكن هذه اللعبة، لعبة الأقنعة لم ترق لمؤلف «العبيد» ولم تستهوه: «لذلك عملت طويلاً على كتابة ألمي الخاص، ألم الفتى الجندي الذي شهد الموت قبل أن يشهد لذائذ الحياة».
ويقول إن انكسار مشهد الحياة العراقية، هيأ مناسبة للحديث عن أدب الداخل وأدب الخارج، «كما لو كانا أدبين مختلفين، وقد وصل الأمر إلى إدعاءات غريبة من بعض أدباء الخارج، وضعوا أنفسهم فيها موضع المعبرين الحقيقيين عن تجربة العقود الصعبة، ومن المؤسف أننا لم نكن نقرأ أيامها نتاجهم، لذلك ظلت أسماؤهم تتردد بيننا تردد الإشاعة».
ويشير لؤي إلى أن المعاناة كانت طويلة وواحدة، سواء بالنسبة إلى أدب الداخل أو أدب الخارج: «يهرب العراقي حاملاً أعباء مخاوفه فالحرية تنبع من الداخل وتضيء فيه، وبغيابها تغيب مساحة مهمة من مساحات التأمل والتعبير».
مهرجانات وحصار
الشاعر طالب عبدالعزيز يقترب بدوره من تلك السنوات الرهيبة، فيقول إن الأديب العراقي ظل حبيس الداخل سنوات طويلة، و«ساهمت في ذلك قطيعته الاتصالية مع محيطه العربي، فهو لم يتمكن من التعرف على المنجز العربي والعالمي خارج ما تزوده به المؤسسات الثقافية الرسمية آنذاك إلا عقب سقوط النظام عام 2003».
خلال تلك العزلة، لم تفلح المهرجانات والتجمعات التي كانت تقام في بغداد والبصرة، ويدعى إليها الأدباء والمثقفون العرب كل سنة في فك الحصار حول مثقفي الداخل، «إذ ظل خارج دائرة التعريف به، أو التعرف عليه على رغم المنجز الكبير الذي حازه البعض من الأدباء، بمن فيهم المقربون من السلطة بشقيها السياسي والثقافي، حتى ان شاعراً مهماً مثل سامي مهدي لم يتمكن من تسويق نفسه للقارئ العربي بما يكفي، بل لم تفكر المؤسسة الثقافية البعثية نفسها في تسويقه كواحد من رموز الثقافة العراقية».
ويعتقد صاحب «تاسوعاء» أن حكاية الأدب والثقافة بين الداخل والخارج لم تعد اليوم كما كانت، «لأن وسائل الاتصال الحديثة وشبكة الإنترنت على وجه التحديد، فككت السؤال تماماً، وقلصت المسافة التي يتباين فيها الخطاب بين ما ينتج في الداخل والخارج، وكذلك الحال بالنسبة إلى تلقيه، يضاف إلى ذلك أن 90 في المئة من أدباء الخارج دخلوا العراق عقب سقوط النظام مباشرة، واستقر البعض منهم في المدن العراقية حتى اليوم، فيما فضل آخرون العودة بسبب الأوضاع الأمنية السيئة، وفي المقابل صار بمقدور أدباء الداخل السفر خارج العراق، وتلبية دعوات خارجية لحضور ندوات ومؤتمرات هناك».
لكن طالب عبدالعزيز يتأسف ويعبّر عن الأذى الذي لحق بالمثقفين العراقيين جراء الآلية السياسية الضيقة التي تعامل بها اتحاد الأدباء والكتاب العرب مع الهيئات الثقافية العراقية، «في ترسيخ مفهوم عزلة المثقف العراقي إعلامياً».
في حين أن الواقع يشير إلى عدم وجود عزلة حقيقية: «وإذا أردنا أن نتحدث بعيداً من المفاهيم الرسمية نقول ان مفاهيم مثل العزلة أو أدب الداخل والخارج، أصبحت خارج تداول المثقف العراقي والعربي على السواء، إذ لم يعد بمقدور جهة ما حجب اتصال أديب بآخر، أو منع إصدار من الوصول إلى بلد بذاته، وصار الأدباء يتصلون ببعضهم يومياً، ويطلع احدهم على ما كتبه الآخر لحظة بلحظة، وبذلك تسقط شركات الهواتف النقالة ومواقع الإنترنت رهان المؤسسات».
ويتوقف عبدالعزيز عند القضية الأكثر تعقيداً، أي خصومات الأدباء العراقيين بعضهم مع بعض، كنتاج لبلد كل ما فيه استثنائي حد الموت، فالعراقي لا يملك حلولاً وسطى لحياته، «بل لا ينطلق غالبية الأدباء في العراق من نقطة على المحيط ليصل، وإنما يريد أن يكون مركزاً، لذا ترى أن خصوماتهم في الثقافة تختلف عن خصومات الآخرين، هناك نفي مطلق لكل ما هو خارج منجزه، ونحن نرى قلما وقف أديب عراقي في محفل ما، وذكر قريناً له أو مثيلاً».
يعتبر صاحب «تاريخ الأسى»، أن الأسماء التي طرحت نفسها في مناخ الحرية خارج العراق، كممثل عن الثقافة العراقية قليلة «إذ من الصعب جداً اختصار الثقافة هذه وفق الآلية التي تحدث بها البعض»، لافتاً إلى أن مفهوم الحرية كفضاء وممارسة إبداعية جغرافية هو تصور نسبي: «نعم كان الداخل العراقي محكوماً بصورة غير طبيعية، لكن فضاء الكتابة مؤمن من الداخل، والأديب لا يؤطر أو يقيد بالمعنى العام للقيد». ومع ذلك كان للداخل العراقي أن ينتج نماذج مهمة في الشعر والرواية والقصة على ما يذهب طالب عبدالعزيز، مؤكداً أن البعض ممن خرجوا من القيد «أنتجوا أدباً رخيصاً فجاً سطحياً في وقت كان الداخل (المقيد) يمور ويعتمل وينتج، أو يتهيأ لذلك في أقل تقدير».
إلا أن الأدب العــراقي اليوم لا يبـــدو منفصــــلاً، كما يطــــرح لـــؤي حمزة عباس، عن الحياة العراقية بظروفها المعقدة وسماتها المعروفة، وقد رسختها عقود القسوة والتخبط والانعزال، مشدداً على موضوع الحرية وتمثلاتها، وأنه سيظل الموضوع الأهم بالنسبة إلى الأدب العراقي، كما هي الحال بالنسبة إلى الأدب العـــربـــي، «ولكن الفـــارق الأساس بين رؤيتيهما أن الأدب العراقي لا يـــزال حتى هذه اللحظة يختبر المساحة الصعبــــة بين أن تحيا وأن تقول، فالقول على نحو ما ينتج الحياة ولا يحل بديلاً منها».
- عن الحياة -